Nizar Kerboute
«العرض ما قبل الأول» لنزار كربوط حِوارية السرد والسينما
Dernière mise à jour : 18 sept. 2021
رشيد الخديري - القدس العربي

الكتابة أشبه بالعزف على أوتار من الأنين، ولا حياة بدون كتابة، إلا في عقول هؤلاء الذين سَلِمُوا من جنونها وشغفها ونزيفها. الكتابة ترفع صاحبها نحو آفاق كونية، فهي مثل السحر تفعل ما تريد في النفس البشرية، فينقسم البشر إلى أصناف وأنواع وسلالات، وأعظم وأعمق هذه السلالة هم معشر الكُتّاب. المبدع المُعَذَبُ في الأرض، المُكتوي بلهيب الحرف والسؤال، المأخوذ بأبهة الخيال والكلام واللغة، والكلام على الكلام، إنصات وغوص في القعر المُجَوَفِ للإنسان، وفوق ذلك كله، نزيف ووهج وقلق واختراق. هذا القلق الوجودي هو ما يجعلُ الكتَاب يَعيشون في برزخٍ عالٍ، وليس نَتَقَصَدُ ها هنا البرزخ بمفهومه السلبي الاستعلائي، وإنَما، طريقة التفكير، ونمط العيش، وأفق الإدراك والتفسير والتأويل، وذاك القلق الدائم، المُصاحب لكلِ مبدعٍ أينما حلَ وارتحل. ما تثيره الكتابة من لحظة اندهاشٍ وانغماسٍ وسموٍ في المشاعر والأحاسيس، وهي تنزع عنها جُبَة اللغة، وترتدي قُبَعَة التخييل، هذا الحضور الأبدي للقلق، هو ما يُشَكِلُ صيرروة، كتابة فوق الكتابة، وهي تمضي حافرةً أخاديد عميقة في نُسْغِ اللغة. هنا بالذات، تكمن أهمية الكتابة، في تَلَمُسِ الطريق والكشف عن الثاوي من معاني الأشياء. بهذا المنظور من القلق والحافزية، تأتي التجربة الأولى للشاعر والكاتب المغربي نزار كربوط في عالم الرواية، محملة بملفوظات مساءلة التاريخ، بحثا عن هذا الأفق المفقود في معاني الأشياء. هذه الرواية الموسومة بـ»العرض ما قبل الأول» (الصادرة عن المركز الثقافي العربي 2020)، وتدور أحداث هذه الرواية حول كمال، الشاب المغربي المغترب في الديار الفرنسية، نتيجة خلاف عائلي نشب بينه وبين أبيه المخرج السينمائي المعروف، لكن، بعد موت الأب، قرر الابن كمال العودة إلى المغرب، بإيعاز من عمه، لتبدأ رحلة البحث عن الجذور والهوية والذاكرة، وتشاء الصدف الماكرة أن يعثر بين أغراض والده على مجموعة من عمل مسجل، حول مشاركة الجنود المغاربة ضمن قوات فرنسية لمحاربة المدّ النازي، هذا باختصار أهم مفاصل هذه الرواية، التي يُمكن اعتبارها رهاناً على الذاكرة، وعلى المادة التاريخية في عملية البناء وصوغ المتخيل السردي لنقل، إنها رواية تتبدى بوصفها ترحال بين صفحات التاريخ المغربي الرازح وقتئد تحت الحماية الفرنسية. لقد بذل نزار كربوط مجهودا مضاعفا وهو يبحث بين ثنايا هذا التاريخ عن جنود مغاربة منسيين بين الغبار والأدراج، حاربوا تحت راية فرنسا من أجل تحرير الوطن، من هنا، نعتبر أن التركيز على كل أشكال التقصي والتتبع والنبش في التاريخ والذاكرة المتخيل، من شأنه الإجابة عن أسئلة الذات واستكشاف الآخر المُطَوَبُ بالزمن التاريخي. وبعد قراءاتي المتعددة لهذا العمل، تبين أن ثمة رهانات على اللغة والتخييل والبناء والتمثيل والهوية والأزمنة المتصارعة، لأن الانتقال من الشعر بلغته المكثفة وصوره ورؤاه، إلى عوالم السرد، يتطلب فاعلية وتماهيا مع شواغل الكتابة الروائية، خصوصا أنها الرواية الأولى، ومن ثم لا بد أن يكون هناك نوع من الخلخلة في التصور، وطرق الكتابة، عبر الانتقال من مستوى معين في الكتابة إلى مستوى آخر، وما ينطوي عليه ذلك، من إعادة النظر في بعض المسلمات، والأهم من ذلك، نزع جبة الشاعر المثقل بالصور والجمل القصيرة الموحية، وارتداء قبعة السارد بما يمتلك من أدوات في أفق فهم التصورات حول الرواية، ومن هنا، يمكننا القول، إن عملية الانتقال لا بد أن تتم بنوع من السلاسة وعدم التشويش، خاصة إذا علمنا أن نزار كربوط جاء للرواية من باب الشعر، وعليه، فإنه سيأتي محملا بتجاربه وتقنياته في عالم الكتابة الشعرية. وإذا طالعنا هذا المنجز الروائي، جاز لنا أن نستقرئ جملة من السمات نوردها كما يلي: ـ الرهان على لغة بسيطة، بعيدا عن المنزع التطريبي والإنشائية، وأحسب أنها لغة تعكس تلك الانشغالات السردية، وهو رهان على الحوارية بمفهومها الباختيني من أجل إعطاء اللغة دينامية أكثر، والبحث لها عن موطئ قدم في الكتابة، كشرط جمالي أولا، ثم ما تتيحه من إمكانات لالتقاط أدق التفاصيل. ـ الانفتاح على تقنيات الصورة والسينما، وهو شيء مطلوب في الراوية، فهي تظل الجنس الأدبي القادر على استيعاب أجناس أدبية أخرى، وحسنا فعل كربوط حين قرر الاشتغال على هذه المزاوجة ،التي منحت للنص الروائي عبورا أكثر لفهم أعطاب التاريخ الرسمي وغير الرسمي، والاستجابة من زاوية أخرى، لمتطلبات السرد الحميمي المتضام مع الفضاءات الرحبة والممتدة في النص.
الرهان على لغة بسيطة، بعيدا عن المنزع التطريبي والإنشائية، وأحسب أنها لغة تعكس تلك الانشغالات السردية، وهو رهان على الحوارية بمفهومها الباختيني من أجل إعطاء اللغة دينامية أكثر، والبحث لها عن موطئ قدم في الكتابة، كشرط جمالي أولا
ـ الاشتغال على التداعي والذاكرة الانتقائية بتعبير محمد برادة في عملية تأثيث الفضاء السردي، وكفاعل مركزي في الكتابة، وهي شواغل تعبر عن وعي أولي بمادة الكتابة السردية، وإن كنت أعتب على الروائي، نظرا لجدية وثراء الموضوع المطروق، الصاخب بالأسئلة والمفارقات، والممتد في الراهنية، أنه لم يتوسع أكثر في التفاصيل، بل ترك العمل يدور في رقعة ضيقة، لا أقصد ها هنا، أن تكون الرواية بدينة كما ذهب إلى ذلك سعيد يقطين، فالبدانة، ليست مقياس لجودة أي عمل أدبي، وإنما أن يغوص أكثر في التفاصيل، أن يستثمر تجربته الشعرية في نسج حواريات مع اللغة والتخييل والتحبيك والالتفاف حول اللحظة، فهذا المنجز الروائي الأول، واقع في صميم تجربة المعنى، بما تنطوي عليه من تجريب ممكنٍ لكل طرائق البناء والتعددية والحوار مع الذاكرة. ـ الاعتماد على تقنية التوازي السردية، من سرد أحداث في الزمن المعاصر (شخصية كمال)، ثم العودة إلى الزمن الغابر عبر سرد وقائع يمثلها (الكابورال محمد)، ومما جاء على ظهر الغلاف، نقرأ ما يلي: «حينما يدخل إلى مكتبه، بعد مراسم الدفن، يكتشف أنَه كان يشتغل على مشروع فيلم غير عادي، إذ يرجع بنا إلى جانب صامت من تاريخنا القريب، حيث تدور أحداثه حول الكابورال محمد في حقبة الحرب العالمية الثانية وتحكي لنا الآلام التي ذاقها الجنود المغاربة، الذين أُقحموا في حربٍ لم تكن تعنيهم في شيء»، لكأن الصراع ها هنا، صراع بين الأجيال والرؤى والتصورات، وبحث عن التاريخ الضائع في السَجلات، وعليه، فإن ثقافة الذاكرة واشتغالها سردياً وسيمائياً، جعلت هذا المنجز الروائي يتبأر بوصفه عملاً للتاريخ، وتمثيلاً أعمق بين الأنا والآخر. غير أن هذه الملاحظات العابرة، لا تنقص من متخيلات الكتابة الدافقة، والرغبة في الارتقاء بهواجسه الحرى نحو مصاف الدفق الهادر، فهي تُبدع شكلها الروائي بناءً على بحثٍ مسبق في السَجل التاريخي، والغوص العميق بين ثنايا الاشتغال الواعي على شكل جديد، بيد أن هذه العوالم المتخيلة تفتح كوات للنقاش المثري حول قضايا الأمة، فالرواية أو الخطاب الروائي المغربي من وجهة نظر الناقد المغربي إدريس الخضراوي، جسدت قيم الحفر في الأرض التي يقف عليها الإنسان المغربي، والكشف عن الخفي فيها، احتفاء بعالم مغاير هو العالم الذي يختلقه الكاتب الجديد، ووفق هذا المنظور، فإن كربوط في هذه التجربة، يعطي الانطباع بأن له عوالمه الخاصة، يشيدها برؤى السارد العليم العارف بممكنات الرواية، ومقترحاتها الجمالية والبنائية، فلا غرابة، أن نلفي هذا التوظيف لكل حوامل الكتابة السردية، رغم أن ترسبات الكتابة الشعرية ما تزال ترخي بظلالها، وهذا شيء طبيعي، ما دمنا بصدد الانتقال من تجربة كتابية لها خصوصيات إلى مادة كتابية أخرى، لها سمات مغايرة ومختلفة، ما يُعطي الانطباع بأننا أمام تجربةٍ سرديةٍ بإمكانها النهوض بأدوات السرد وشهوة الحكي، وإن كانت تحمل اسم «العرض ما قبل الأول» وهو عرض تجريبي، لا يحضره الجمهور، بل فئة قليلة لا تتعدى المخرج والممثلين وبعض الأقلام الصحافية، وهو بالتأكيد لن يكون العرض الأول والأخير.
٭ باحث وناقد من المغرب