Nizar Kerboute
أحمري يبتلعه السواد: الأنا من ظل الحلم إلى بياض الرؤيا
Dernière mise à jour : 18 sept. 2021
صلاح الدين شَكي

بدت سيرة الألوان، على صفحة البياض، تشكيلا حالما من الرؤى، وهندسة شفافة لوضعيات التشظي ؛ ذاك التوزع الدامي للأنا الغائرة في جذرية الألم بوصفه إزميل ذات شاعرة نحتت من صيغ الحكي تماثيل لبلاغتها على جدار العمق، عابرة بهذا تخوم السؤال الجوانية، إذ حولت النسيان إلى كوة صدى جلله فعل الزمن بين أروقة الذاكرة محوا شذريا، ونسج حروف اختصرت قوس قزح في أحمر طافح بقوة الوجود الفلسفية، والمنسوفة على فتنة السواد باعتباره نبرة زمن إقصائية تروم في مضمرها الأساسي حضور التفاصيل بمسارات التذويت الرمزي للأشياء، ومنه بيان العلائق السيميائية بين الصورة الشعرية بكونها تجليا ذهنيا وعاؤه اللغة، المظهر الحركي للبوح الإنساني الذي تمثله الدائرة اللونية في أبهى أنساقها الاعتبارية إبداعيا. وذلك لأن أفعال المغايرة والتغيير استلزمت اشتغال الذات الشاعرة على حفرياتها الخاصة في إطار من التوحد الانزياحي لمقتضيات الخريطة النفسية للشاعر وقراءته الشعرية لفلسفة الألوان، وخضوع هذه الأخيرة لمنطق الضوء والظل باعتباره العامل الموجه والمؤسس لسينوغرافيا الرؤيا والحلم في الواقع التخييلي لديوان: "أحمري يبتلعه السواد".
1- الأنا وظل الحلم:
يتسلل الشاعر المغربي نزار كربوط في صبح الحرف خفيفا مثل ريح صبا، وصوتا حزينا دوزن تفاصيل معيشه اليومي على نهوند شرقي قديم، بهذا الشكل يبزغ معه تساؤل الذات عن كينونتها، ويتولد حلمها العاج بسؤال الرؤيا ؛ لكونها مرآة الظل/ السواد الذي يعلن نفسه مساحة زمنية استقطابية تكتب من خلالها الأنا و تنكتب، وانعكاسا جماليا لسياقات الأحمر/ الحياة السيكولوجية باعتبارها ذواتا حالمة/منحلمة يتقمصها شخوص الشاعر، ويلبس ظلها في حالات من الشطح والوجد المتألم بسيرة الواقع المأزوم، هذا لكون الحلم أداة حابلة بمظاهر الليل الفضلى، مما يصير السواد مادة تغلغل فيها عبثية المجهول اللا مألوف لماهية أنا حائرة بصيرورات الوجود الأزلية بوصفها كائنا نهاري الملامح، وهذا الانعطاف إلى الداخل عبر سرود الحلم يتجلى واضحا في قصيدة "شموس أيلول"، إذ يقول الشاعر:
"اختطفتني فكرة طائشة
تعبر الطريق...
(...)
وغبت، في الصدى
لم تمهلْني الوقت الكافي
لألتقط صورة فوتوغرافية لذاكرتي المنكسرة
ولا لأراجع مسودةً
كتبت فيها عنوان جسدي الغريب
جسدي الذي يتهرَّب من ملاقاتي
في وضح النهار
ينتظر سقوط أول قطعة من الليل
ليطرق باب جفوني") ص:8. 7 (1
فقد جرب هذا النص فعل كينونته على متواليات رسمتها سميترية القيظ لأيلول الانكسارات، بانية سياق سرودها على أنقاض ذاكرة مهزومة بالبياض، والتي تسير نحو تلاشيها الليلي بهدوء المنكفئ على نفسه... لتتشكل بذلك تفاصيل واقع مغاير يُنْشد إيقاعاته بناي حزين فقد ظله الأُرفيوسي باعتباره سوادا تكتبه أطياف/ذوات أخرى بالحلم؛ لأنه الفضاء الأرحب لتجلي الأنا الشاعرة. حيث تبدو الكتابة نوعا من الترتيب الداخلي لحياة الليل التي تُشرعُ آفاقها للامتناهي الزمني الذي يمثله الحلم في الأسود، بكونه توقفا ضمنيا لسيرورة الكائن الشعري أمام تمحيات الليل، وانحرافا تخييليا من انزياحات اللغة الشعرية على مستوى الصورة الوثيقة لأنها غير قادرة بحال من الأحوال بناء الأنا بوصفها تحققا جذريا لمطلقها الوجودي ؛ أي إن العدم الذي تحياه الذات الحالمة لم يستطع التفريق بين نوعين من الميتافيزيقا )ميتافيزيقا الليل وميتافيزيقا الظل (التي تفرضها الأحلام على نحو قسري بفعل التراكم، وهذا النسق من المحو يحيلنا مباشر على قول الفيلسوف الفرنسي " Gaston Bachelard" في كتابه شاعرية أحلام اليقظة: "في جميع الأحوال نصبح بدون تاريخ. عندما ندخل عالم الليل. (...) فمن الطبيعي إذن أن لا يجد الحالم في هذه الأحلام ضمانة لوجوده. " (ص:127)2.
أما الجسد فما هو إلا حامل للحظة المفصلية لتلك الجدليات المتناقضة المؤسسة للفعل الإنساني ومنه الفعل اللغوي ، والتي تجعل من الحزن المجازي حالة حالمة من التصدع تقض مضجع اليقين الواهم لدى الذات الشاعرة بمغايرة واقعها المترع على القاع، حيث ينساب صقيع اللا جدوى متخفيا في سينوغرافيا التفاصيل التي رسمها قلم الشاعر الرصاصي بعناية في "أحزان تتساقط في داخلي " بقوله:
" I
كراكيب مجازٍ تعيسٍ
تملأ غرفتي
تأخذ من ضوئها قليلا
وتترك للجدار طيفا يتيما
يبحث عن إخوته
في نقطة البداية
II
كفاني تصدُّعًا. . .
حلَّ الشتاء
وانساب الصقيع
في جفوني"(ص:14. 13)3
أشياء صغيرة ومتناهية الدقة يواصل السواد امتداداته الزمنية في ضوئها رسم الحدود الفاصلة بين جغرافيات تلك الذات الحالمة به و من خلاله، فهو يصبها تارة في قوالب مقعرة من المرايا تضخم حجم الشخوص المنحلمة بها، لرأب تصدعات الداخل من صقيع الشتاءات المنقوشة بألوان طيف حزين على جدران الذكرى، وتارة أخرى يكون الغناء أمام مرآة محدبة، وهذا الوضع المشروخ يسم الذات الشاعرة وواقعها المعيش، جاعلة من نبرية اللغة في مستواها الداخلي تؤثث لأنفاسها الجوانية على مساحات الألم الشاسعة، إذ تتكامل في إثره مكونات التخاطب الذي نحتته الذات انطلاقا ملازمة ظلها بوصفه ذاتا أخرى، فغدا بعدها المخاطب أنا مغايرة تتغي الآخر بعدا خياليا لإيقاع الصورة الشعرية، والذي يتخذ من ضمائر الكلام شكلا تعبيريا ينوع من خلاله مواقع وجوده باعتبار لوازم الأنسنة التي يسقطها الشاعر على الفضاء بمكوناته الكاملة، مما تفرضه الزمنية السوداء للون بكونه نسقا تحليليا للغة الداخل المعتمة والتي مارست انتهاكاتها المطلقة في باقي تخوم القول الشعري عند نزار كربوط، وهذا يكون قويا عندما يجترح الشاعر من ذاته مخاطبا بصيغة المؤنث، رغبة منه في تأنيث كل ما له عذوبة وأخذ خاص بالألباب متجاوزا بذلك تلك النمطية الفجة والبسيطة للتذكير باعتباره واقعا لغويا جثم بظله على الإيقاعات الداخلية للحرف وانسحب هذا على طبيعة الصورة الشعرية التي تجلت مسلاتها الإجرائية في البعد الجمالي لمفهوم التأنيث لا بوصفه صيغة من صيغ اللغة فقط، وإنما لكونه نوعا من الوجود الذي يغيب ويحضر وفق الرزنامة الحاجية للنفس البشرية عموما والشاعرة خاصة، إذ يقول "Gaston Bachelard" بهذا الشأن بكتابه الآنف الذكر: "الأحلام والتأملات الشاردة، الرؤى والتأملات، الذكريات والتذكر، كلها مؤشرات للحاجة في تأنيث كل ما هو عذب و أخَّاذ مع تجاوز التذكير المبسط الذي تحدده حالاتنا النفسية. "(ص: 29) 4، وهذا ما تؤكده كذلك القصيدة ذاتها "أحزان تتساقط في داخلي"، في المقطعين الثالث والرابع بقول الشاعر فيها:
" III
أَنْتِ سيدتي حبلى بقصائدي
لِديها قريبة من البياض
واحذري. . .
ناراً تتبعث من حروفي
قد تضحكك يوما
ويوماً تدميكِ
IV
اصعدي فوق السحابة العذراء
وانظري إلى تحت
(...)
تأملي في مستقبل الماضي
وفي ألفٍ تقف إلى جانبي
ترضعني من ثديها ألم الأنين" (ص:16. 15)5
ويبقى هنا الألم بياضا ممتدا في زمنية الواقع باعتبارها تجليا حالما للفداحة بكل رمزيتها المهرق دمها على رصيف الرتابة، هذا السير الباذخ في المعيش المزري لذوات تعودت أن تشرب سيجارة عمرها على كراسي المقهى، وملاحقة سواد ظلها الهارب بالشوارع بين الفينة والأخرى، لأن يقينها صار في مزادات النخاسة الحداثية صفرا باع شمال أرقامه ببسمة ناذل وعجرفة ريح التحفت المطر لتعاود سيرة البوح في تفاصيل صغيرة سكنت عطر امرأة مستحيلة، غواية أبى نقشها المحفور بقطران النسيان في خوابي اليأس أن يكبر بذاكرة جعلت الصعود إلى الهاوية ذات خريف في مربع شمسها الآفلة.
فتشكل الحلم الطاعن في جرحه بفعل نسقية لونية مثلت لمغادرتها المتأنية نحو اللامنتهى التداولي للغة الحياة الصغيرة بانهيار عارم المساحات، انهيار اتخذ من الوصف حدثا تكثيفيا خالصا كما في نص "انهيار":
تَجْمَعِينَ تفاصيل وجهي
في جيب المعطف
وتُسَافِرِينَ مع الصمتِ
نكايةً بالقصيدةِ: "(ص:32. 31)6
حيث تتماهى الأشياء ببعضها، لتستدل على نفسها بإيقاعية بدأت عروضية لتنتهي بالنكاية في تواترات التداول الفكري لمفهوم الصورة عبر سفر الحروف صمتا، والمنفلتة من وجه الوقت القابع بجيب المعاطف التي خبأت شفق القصيدة المنهارة حبرا، وذلك بنفس مخاتل يرفض المغادرة أماكنه بالذات الشاعرة باعتباره حيزا للتفكير الشقي بوعي حالم، مما حدا بالذاكرة أن تفتح نتوءات شقوقها للحزن بفرح الألم، وجع جميل عَوْسَجَ الظل بالكلام الجريح في متاهات ضوء تاه سواده في لجة حروف نسيت مسماها على تخوم معنى أغواه جسد النهار بالتفاصيل فحمل ديدن الوقت/ السيزيف نزيف أشلاء وجوده المكاني على كتفه، وبهذا الوصف صارت الهشاشة بياضا آخر للذات حملته ذكرياتها الخاصة بفلسفة من النبش الغائر في فجاج العمق المتقرحة، وهكذا جاءت قصيدة "لحظات تغادرني"، التي يقول الشاعر في المقطعين الأول والرابع منها:
" I
شقوقٌ تجتاحُ ذاكرتي
نوازلُ حزن...
صواعدُ ألم...
وأشلاءُ المكان على كتفي
ثقبٌ عميق يسكنني
طوقُ العوسج يحاصر ظلي
(...)
IV
حروف تسيل من جرح الكلام
قلوب متفحمة
تشرب الدخان
تمتص أثر الحريق
وتتلمس زجاج النافذة
كأنها تبحث عن ضوءٍ تائهٍ
يرفض الظلام" (ص:38. 35) 7
نجد الذات الشاعرة حالمة بالمتغير في الظل، منحلمة بأفق يروم رسم ملامح الوجدانية العارفة لأناها باعتبارها هذه الأخيرة الحيز الاعتباري لفعلية اللغة، وفاعليتها التذاوتية للواقع المعيش بوصف أن كل ذات تعمد إلى أسطرت لغتها الخاصة بشكل قداسي، ذاك ما يجعل الفعل اللغوي في صيغته الرمزية المطلقة ضربا من ضروب التعريف الواسم لهوية مبدعها لكون العلاقات القائمة بين الكلام والأسطرة التي تؤسس عليها الذات فكرها الإيحائي، والذي من خلاله تمارس فعل اللغة هو قانون منسحب على جميع الأشكال الرمزية كما ذهب إلى ذلك "Arnst cassirer" في كتابه "اللغة والأسطورة" بالقول:"هنا نواجه قانونا يصح على جميع الأشكال الرمزية على السواء، ويؤتي ثماره في الجوهر في ارتقائه. (...) ويجري التعبير أساسا عن الرباط الأصلي بين الوعي اللغوي والوعي الأسطوري-الديني في أن البنى اللفظية تبدو ككيانات أسطورية، أُسبغت عليها قوى أسطورية معينة، والواقع أن الكلمة تصبح نوعا من القوة الأولية التي يتولد الوجود بأسره والفعل برمّته. " (ص:88. 87) 8
وقد عمد الشاعر إلى ما يمنحه المنطق الانزياحي لأفعال اللغة، بالإضافة إلى ما تهبه التعابير السيميائية لخلق دائرة لونية أساسها الرمادي تلبي حاجته المضمرة للشبيه المتحرر في مسميات تختلف بتنوع الحالة النفسية التي توفرها إيقاعات الصورة الشعرية بوصفها نمطا معيشا، والظل فيها هو البرزخية الفاصلة بين الحلم والرؤيا.
2- الأنا وبياض الرؤيا:
ورد الحلم والرؤيا في "أحمري يبتلعه السواد" باعتبارهما صيغة انكتاب وجودية ؛ إذ يعد الظل فيها الوجه الحالم للأنا، في الوقت الذي غدت الرؤيا مرآة البياض ، حيث يمكننا أن نفهم من خلال هذه الثنائية التواترية الأبعاد الجمالية، المؤسسة لشعرية التفاصيل، فكانت بهذا المعنى استراتجية استشرافية خطها الشاعر لذائقته الإبداعية منذ البداية، بوصف أن للرؤيا فتنة الصورة وغواية الإيقاع، لأن البعد الخيالي للمسألة الجمالية يسير نحو جعل العروض النفسي قوة دافعة بفعل الانسيابية والانفتاح الذي توفره المفارقة بكونها شرطا أساسيا للشعرية المعاصرة، في نوع من التوازن المنطقي لإيقاع الذي صارت عليه قصيدة النثر العربية عموما، والمغربية بخاصة، لا بصفته الخليلية الصرفة وإنما بتمثلاته اللا وزنية للصورة إذ يؤكد الناقد المغربي عبد السلام ناس عبد الكريم هذا في كتابه "في تأويل النص الشعري" بالقول: "أمَّا الأجيال الشِّعرية التي خطت مراحل هامة في التجريب ولازالت تعتقد بجدوى التطوير، فهي تقود التجربة بشمولية المنظور(...) وهي تأخذ بالاعتبار من الناحية الفنية التوفيق بين الإيقاعات الصَافية، بالمعنى الاصطلاحي لنازك الملائكة، وإيقاعات قصيد النثر التي تقوم على خيارات التشكيل اللغوي الداخلي للقصيدة. كما تعتبر المضمون الشعري انبثاقا شفافا من نسيج اللغة الشعرية، يفضي إلى التوازن بين الرؤية والرُّؤيا، وبين العقلاني(المرئي) وبين اللاعقلاني (المرصود بلغة الحلم). على أن تلعب أنا الشاعر دورا حاسما في إضفاء التوازن على الأنوات الأخرى. بحيث يعمل انتشالها من متاهة الانفعالات الحسية المفرطة، ومن أثر الوجدانيات الروحية المتكلفة من جهة ثانية. "(ص:59. 58)9، ومنه إن سيرورات التوافقات الشعرية بين الأنوات المغايرة للذات الشاعرة في الديوان موضوع هذه الدراسة وجدت انعتاقها الرمزي في سيرة الألوان بسرود متنوعة الزوايا، فالأحمر الذي يأخذ في معظم الحالات الإنسانية لباس الحياة في مطلقات الحدسي للأنا، حيث غدا هذا اللون وجها جديدا للألم، وشرخا من شروخ الداخل باعتباره تجليا من تجليات اللاعقلاني (المرصود بلغة الحلم). ليبقى الأسود نبرة زمنية ترصد واقع الحياة بتشكيل بقع البياض بوصفها مناطق برزخية يعشعش فيها وميض الرؤيا الشعرية بلفحة أمل يستشرف المعالم الفلسفية لمفهوم الخيال الأدبي لدى الشاعر ، فهذه التعالقات اللونية بين الأحمر والأسود في تذاوت الأنا والآخر، والتي تتأكد من خلال القصيدة الرئيسة في الديوان، "أحمري يبتلعه السواد" بقول الشاعر:
"تعبتُ منكَ يا دمي
اِنكسرْ بعيدًا عن عروقي
التي حفرتَ فيها عباراتٍ
تذبحني تحت أضواء المدينةِ
وارحلْ
قبل عودة الليلْ
(...)
اجمع ما استطعتَ من رحيق
قبل أن تجفَّ الاستعارة
ويذبل المجاز
قبل أن يفتض ألفٌ ثمل
بكارة النون
استمتع بزرقة جلدي
واترك الأحمر
يبتلعُهُ السوادُ
المهاجر من شرق قديم." (ص:44. 43. 41)10
فالأنوات الأخرى التي بعثها الشاعر من رماد داخله، إذ من سوسن المعيش اليومي نحتت لنفسها سيرا مختلفة، متخذة من الحوارية التناغمية أساسا للبوح، مكثفة بهذا صيغ الوجود الإنساني العامة، بتعددية بلاغية اختصرت زمن الحكي معها في سرود شعرية شفافة وعارية من التكلف اللغوي الذي تفرضه في أحايين عديدة أعراف القول الشعري، لأن اللغة الأدبية واللغة الشعرية بصفة خاصة بهذا المعنى لغة شديدة الحساسية، حيث تعد دعوة دهشة مستمرة اعتبارا لطبيعة المغايرة السريعة التي تتخذها منطقا لتحقق الذات بوصفها وجودا فكريا متفردا، وأنا أخرى تثور على مألوفها العادي، إذ نجد"الأكاديمي المصري شاكر عبد الحميد" يذهب إلى تأكيد هذا في أحد أعداد عالم المعرفة المعنون ب: "الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضي" بقوله:"يأخذنا الأدب كما تقول جوليا كريستيفا إلى حافة الوجود، حيف تدعو مشاهده المتخيلة القارئ له إلى أن يصبح مسافرا مملوءا بالدهشة(...) عندما نقرأ أو نكتب نتبع دافعا مماثلا لدافع المسافر، ونأخذ سبيلنا عبر أقطار مجهولة ما، لكن اللغة، اللغة الأدبية تخلق عالمها الخاص المتجدد السريع التغيير، والمقاوم لكل ما هو مألوف ومعتاد". (ص:222)11.
ذلك السفر الذي يؤسس علاقات الذات باختلاجاتها في أخيلة الزمن دون بوصلة، زمن يتخذ من الألوان نبرات تنحت هويتها في صوت اليومي بصفته رؤى منكتبة لانهيارات البياض اللغوية في وجه السواد، فهذه الرؤية المأزمومة التفاصيل بأثر الرعشة تتلو ترانيم حصادها الأخير حزنا يليق بالظلِّ خلسة، وشقاوة الريح وريقات تبحث عن حلمها الشارد والمشدود إلى رقص زوربا الباذخ في يوم أحد باحثا عن وجه القصيدة، إذ عمد الشاعر في قصيدة"يوم أحد وحيد" إلى القول:
"20:30
كلمات تتسكع
في شوارع رأسي
تبحث عن حانة
اسمها:القصيدة
20:32
بياض ينساب بين الحروف
يُقلق
استعارة ثملة
تسكن عشًّا مهجورْ
20:40
شاعر وحيد
في يوم أحد وحيد
يقاوم رحيل الشتاء
عن معطفه الوحيدْ. " (ص:105. 102. 101)12
هذه الدقائق العشر أزاحت عن القصيدة حجاب واقعها السميك، لا ليرى فيها نرجيس السعر هواه، وإنما هو توصيف تشريحي لإحدى معضلات الكتابة الشعرية، حيث لم يكتف هنا الشاعر بتشخيص حال القصيد منفردا معزولا عن قائله/كاتبه، فالقصيدة بهذا المعنى تكتب صاحبها قبل أن يفعل هو ذلك، هذا راجع في أساسه إلى كون الزمن النفسي أكبر من كرنولوجيا الواقع العادية، مما يخلق نوعا من التباين في أزمنة الذات المبدعة، وهذا يجعلها في غربة دائمة، حيث يغدو إيقاع عروضها الداخلي في عمومه إيقاعا سريعا تقوده فلسفة الذاكرة لأشياء، بينما يبقى الزمن الفلكي للوقت والتاريخ في الواقع بطيئا، إذ يعري الفعل اللغوي جيولوجيا هذه الذات المتألمة بمياه الحرف والحياة.
أناخت راحلة الذات المبدعة راحلة ألوانها على أرض بياض، فتشكلت بذلك مسوغة الرؤيا باحتفالية ألم فرح، تشدو الحروف فيها أغاني البسطاء، لترسم للمعنى وجه الغبطة المفرطة في تأمل البعد الاستشرافي لمفاهيم الخيال كما أقرها المفكر الصوفي ابن عربي في كتابه "الخيال:عالم البرزخ والمثال" بقوله: "البرزخ هو أمر فاصل بين معلوم وغير معلوم، وبين معدوم وموجود، وبين منفي وبين مثبت، وبين معقول وغير معقول... ويعد أتم المقامات علما بالأمور.. ولا يعرف هويته إلا من يفك المعمى " (ص: ص8. 7)13 والمعمى هنا ليس بمعناه اللاهوتي، وإنما باعتباره توصيفا تراتبيا لمدارج الخيال الكبرى، إذ يمكننا أن نعد الأنا بمثابة البرزخ الفاصل بين الحلم والرؤيا، والذي تتكون فيه االتجليات العامة لشعرية الانهيار بوصفها يوتوبيا الخلاص عند نزار كربوط.
يعد الحلم والرؤيا تجليات واحدة لكوجيطو الذات المبدعة، ثنائية تكاملية بقوة التضاد، إذ أن الظل برزخ تشكلها الأول نطفة، والبياض ربع ثورتها الحرفية، فمن خلال هذا البعد الجدلي لسيرورة الأنا في ديوان: "أحمري يبتلعه السواد".
تتأسس السرود الشعرية للتذاوتات التي غزلت غمام المجاز، وعدلت كيمياء الداخل النفسية في ضوء موازنات إيقاعية جعلت من الصورة الشعرية إطارا توليفيا لمفاهيم المنثور الشعري لدى الشاعر، ومنه نخلص إلى كون الشاعر المغربي نزار كربوط استطاع بهذا النوع البناءات السردية لمنثوره الشعري أن يخط اسمه بروية ضمن شعراء قصيدة النثر المغربية.
صلاح الدين شكي
ناقد من المغرب
الهوامش:
•1- نزار كربوط: أحمري يبتلعه السواد؛ دار فضاءا ت للنشر والتوزيع؛ عمان/الأردن؛ ط:1؛ 2010؛ ص8. 7.
•2- غاستون بشلار: شاعرية أحلام اليقظة؛ ترجمة: جورج سعد؛ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر؛ بيروت/ لبنان ؛ ط:1؛ 1411ه/1991م؛ ص:127.
•3- الديوان؛ ص:14. 13.
•4- غاستون بشلار: المرجع المذكور:ص:29.
•5- الديوان؛ ص:16. 15.
•6- الديوان؛ ص:32. 31.
•7- الديوان؛ ص:38. 35.
•8- أرنست كاسيرر: اللغة والأسطورة؛ ترجمة: سعيد الغانمي؛ هيئة أبوظبي للثقافة والتراث؛ أبوظبي/الإمارات؛ ط:1؛ 2009؛ ص:88. 87.
•9- عبد السلام ناس عبد الكريم؛ في تأويل النص الشعري؛ مطبعة: شركة إمبريما مادري؛ ط:1؛ 2008؛ ص: 59. 58.
•10- الديوان ؛ ص:44. 43. 41.
•11- شاكر عبد الحميد: الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضي؛ المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب؛ الكويت/الكويت؛ عدد:360؛ فبراير2009؛ ص:222.
•12- الديوان ؛ ص: ص:105. 102. 101.
•13- محي الدين بن عربي:الخيال: عالم البرزخ والمثال؛ تحقيق:محمود محمود الغراب؛ دار الكاتب العربي؛ دمشق/سوريا؛ ط:2؛ 1414ه/1993م؛ ص: 8. 7.
صلاح الدين شَكي